هل نحطم التماثيل خوفاً على أرثوذكسية العبادة ؟

تكرّم الكنيسة الأرثوذكسية المقدسة الأيقونات في صورة تتجاوز مادة الأيقونة إلى الشخص المُصوّر عليها،
وترى الكنيسة في الأيقونة كتاباً مقدساً مفتوحاً للمؤمنين ، من خلاله ينتقلون من العالم إلى الأبدية، يقفون في حضرة الله ويخاطبون القديسين ويتمثلون بهم في نسكهم وجهادهم.
ولهذا تميزت الأيقونة الأرثوذكسية البيزنطية عبر العصور بأنها ذات خطوط عريضة واضحة وثابتة يجري التحرك والتطور ضمنها ، في مجال معين لا يُسمَح لراسم الأيقونة بتجاوزه ولا بإضافة لمسات فنية معاصرة أو مدرسية معينة.
وضمن تلك الخطوط استطاعت الأيقونة البيزنطية وعلى مرّ القرون العشرين الماضية ، أن تكون نافذة في هذا العالم مفتوحة على السماء، أشخاصها يتميزون بملامحهم التي تبين أنهم ليسوا في هذا العالم، بل هم في حضرة الإله ، تشعّ وجوههم بنوره المنعكس عنها، وترنو عيونهم في نظرة بعيدة تحاول كشف أغوار المجد الإلهي الذي لا يُدرك.
تقوم الأرثوذكسية على التقليد الشفهي والكتابي معاً، ومن ضمن عناصر هذا التقليد ذلك التراث الآبائي الضخم الذي تركه لنا قديسو الكنيسة وآبائها على مر العصور .
- ليس في اقوال اللاهوتين أي ذكر للتماثيل ، بل انصب جميع كلامهم على الايقونات.
- كل ما في تاريخ الكنيسة حتى الإنشقاق الكبير بين الشرق والغرب لا يتحدث عن التماثيل بل عن الأيقونات، وحتى الحرب المعروفة التي سبقت انعقاد المجمع المسكوني السابع هي حرب الأيقونات ولم يرد ذكر إلى أنه جرى فيها تحطيم للتماثيل فيما يبدو على أنه تأكيد تاريخي غير مباشر على عدم وجود التماثيل في الإمبراطورية البيزنطية حيث كانت الكنيسة الأرثوذكسية . 
- لا تمتلك الكنيسة الأرثوذكسية نصاً مجمعياً قاطعاً يحرم إقامة التماثيل لتكريم الرب يسوع، الإله المتجسد، أو العذراء أو القديسين.
لكنها بالمقابل لم تعرف من خلال تاريخها إقامة التماثيل ونصبها لا في دور العبادة ولا حولها . ولكن لو افترضنا جدلاً أن المجمع المسكوني السابع قد تجاهل مسألة التمثال بسبب عدم وجود تماثيل في القسم الشرقي من الإمبراطورية لما صحّ اعتبار هذا المجمع بعد اليوم مسكونياً، إذ لا يمكن لنا أن نقبل بحال من الأحوال أن ظهور التماثيل الدينية في الكنيسة البابوية ظهر بشكل مباغت بعد المجمع السابع أو حتى بعد الإنشقاق الكبير بين روما والقسطنطينية عام 1054. 
كل ما تقدمه الأرثوذكسية هو رؤيتها اللاهوتية للفارق الهائل بين الأيقونة بحسب الضوابط البيزنطية والتماثيل بحسب الفن الكلاسيكي المعروف في أوربا الغربية في العصور الوسطى.
وفي هذا لحقّ كبير، إذ أنه وبكل المقاييس لا يمكن للتمثال ولا للمجسمات ولا للوحات الفنية على دقة تفاصيلها وإبداعها أن تعبر عن اللاهوت المسيحي بالشكل الذي تعبّر عنه وتقدمه الأيقونة البيزنطية، ولا مجال حتى للمقارنة بينها. 
هذا الأمر يصح عند المؤمن الأرثوذكسي، الواعي لتعليم كنيسته وللاهوتها، والذي تشرّب من عبق آبائها وتراثهم الروحي الضخم؛ إلا أنه يصبح سيّان لدى الشخص ذو التربية المسيحية التي هي أشبه بأرض فقيرة ليس لتربتها عمق، فهذا لا فرق لديه بين الأيقونة واللوحة أو التمثال. سواء أكان هذا الفقر الروحي نتيجة لجهل صاحبه أو تقصير منه في التغذية الروحية أو إهمال رعوي من رعاة كنيسته. 
لكن في المقابل هل يستسيغ الأرثوذكسي أن يحمل مطرقته ويحطم تمثالاً يصور الرب يسوع المسيح، الإله المتجسد؟ أو أي تمثال يمثل أياً من القديسين الذين تكرمهم الكنيسة وتحترمهم ؟ 
للإجابة على هذا التساؤل علينا أن نعود إلى الكتاب المقدس، فقد ذكر الكتاب كيف أن حزقيا الملك حطم الحية النحاسية ( 2 ملوك4: 18 ) التي رفعها موسى في البرية وحصلت نعم الشفاء بواسطتها للعبرانيين ( عدد 9: 21 )، وذلك لما تحول الشعب عن إكرامها إلى عبادتها وصاروا يستخدمونها كصنم، ونعتها بأنها " قطعة نحاس " رغم أنه في الماضي خرجت نعم كثيرة من قطعة النحاس هذه وصارت بركة للعبرانيين.
فإذا كانت حجتنا هي خشيتنا من التماثيل في أديرتنا أن يتحول إليها المؤمنون ويتعبّدون لها، فتصبح أصناماً فهذه الحجة لا تقنع أحداً.
إذ أن المؤمن بذلك إنما سيقدم الإكرام لتمثال السيد أو السيدة أو القديس كما يفعل تماماً أمام أيقونتهم . ومن يقوم بفعل عبادة لتلك الكتلة الإسمنية فهو إذا يقوم بعبادة أيضاً أمام الأيقونة .. وانطلاقاً من واقع كهذا يغدو من المنطقي ليس فقط إزالة التمثال بل وإزالة الأيقونة أيضاً ، عملاً بقول الرب له المجد " إن كانت عينك اليمنى تعثرك فاقلعها وألقها عنك. لأنه خير لك أن يهلك أحد أعضائك ولا يلقى جسدك كله في جهنم " ( متى 5 )، وقول بولس الرسول " إن كان طعام يعثر أخي فلن آكل لحماً إلى الأبد لئلا أُعثر أخي " ( 1 كور 13:8).
إذاً المسألة ليست أيها الأحباء في وجود التمثال أم وجود الأيقونة ، بل المسألة الحقيقية هي في أنه هل يكرم المؤمن الأيقونة أم يعبدها، وبالتالي هل هو يكرم التمثال أم يعبده ؟
إذ لا يجوز القول بأن مؤمنينا يكرمون الأيقونات ويعبدون التمثال، أو العكس. إذ أن من لا يعلم حقيقة الإيمان الأرثوذكسي فهو قد يقوم بالفعل ذاته أمام أي شيء. وهنا يكمن دور الرعاية الحقيقية وتثقيف شعبنا المؤمن المستمر والمتكرر بمعنى حركاتنا الليتورجية وطقوسنا وعبادتنا، دون كلل من ذلك ولا ملل. 
لطالما نتساءل: ألا نرى مظاهر المغالاة في تكريم الأيقونة لدى بعض المصلين، عن حسن نية أم عن جهل أم عن معرفة ، ولا نستهجنها لأنها تتم أمام أيقونة؟
إذ إن تكريم الأيقونات قد نصت عليه قوانين المجامع، لم أسمع كاهناً خاطب هؤلاء المغالين ونبههم إلى طريقة التكريم الصحيحة.
أما الإنحناء أمام تمثال للسيد او إضاءة شمعة أمام تمثال للعذراء، أو إدخالها لبيوتنا فهي الهرطقة بعينها !! هل هذا هو المنطق؟ وهل هذه هي روح الأرثوذكسية التي آمنا بها؟ 
المسألة إذاً أيها الأخوة هي في مكنونات قلوب المؤمنين وماذا يقصدون بتكريمهم للأيقونة أو للتمثال؟ هل يتعبدون لهما ؟ وبالتالي يجب إزالة كليهما لئلا يكونا عثرة للمؤمنين . أم أنهم يكرمونهم فحسب ؟ وهنا لا يوجد في ذلك ضير إذ أن لا خطأ عقائدي في هذا التكريم لأنه ليس موجهاً لا لمادة الأيقونة ولا لمادة التمثال، بل إلى من يمثلونه. 
أما إن كان حرصنا على عدم إقامة التماثيل في أديرتنا هو من منطلق أنه شتان بين لاهوت الأيقونة ولاهوت المنحوتات فهذه نظرة محقة من وجهة نظر كنسية أرثوذكسية، إذ أن الأيقونة تنقلك خارج الزمن عبر بعديها الأفقي والعمودي، الأمر الذي لا يمكن للتمثال أن يعمله بأبعاده الثلاثة .
مع العلم أن هذا الأمر نسبي وليس مطلقاً. فالمؤمن الكاثوليكي الذي اعتاد اللوحة والتمثال في كنائسه وبيته يصلي بخشوع وصدق أمام التمثال كما يصلي الأرثوذكسي أمام الأيقونة.
لا نخدعنّ انفسنا بكلام غير واقعي، فالمؤمنون الكاثوليك ليسوا بمتعبدين للتماثيل كما نحن لسنا بمتعبدين للأيقونات. كلٌّ ينتقل إلى حضرة الله بطريقته التي تربّى عليها ..
الكاثوليكي يكرم الأيقونة البيزنطية أما الأرثوذكسي فينفر من التمثال الذي يصور الرب يسوع المسيح متجسداً، ويظنه خطراً على نقاوة إيمانه!!! 
وتساؤل آخر لا يقل أهمية عن سابقه: ألا ينحني المؤمن الأرثوذكسي لخشبة الصليب؟ أوليسَ الصليب مجسماً ثلاثي البعد موجود في الزمن الحاضر وليس في الأبدية ؟
في الأبدية لا توجد صلبان بل فرح لمن صُلبوا هنا في العالم عن شهوات هذا العالم . ألا ينحني المؤمن الأرثوذكسي ويكرّم الأواني المقدسة: الكأس التي منها يناول جسد الرب ودمه، ألا يقبّلها المؤمن بعد المناولة؟ أليست منحوتةً ومجسماً ؟ هل تكفي نصوص المجمع السابع لتحويل كل تلك الأواني إلى أواني مقدسة ، بينما يصبح تمثالٌ يرمز للسيد المسيح ويصوره منحوتاً شيطانياً يجب تكسيره لأن ما من نصوص تحميه وتقر بتكريمه ؟ 
نحن لا ندعو على الإطلاق هنا لكي يحل التمثال محل الأيقونة، ولا حتى إلى جانبها، فبالنسبة لنا لا نرى مجالاً للمقارنة بين الأيقونة والتمثال، أين هذه من ذاك؟
الأيقونة تنقلنا من الارض إلى السماء كما الترنيمة ، نعيش جلال الحدث الأيقوني وأستعيد النص الإنجيلي له، ونقف مع القديسين وفي حضرة الله وامام أم النور والدة الإله.
ولكن بالنسبة لأخوة لنا ، ولأنهم اعتادوا أن يعيشوا نفس الحالة عندما يكونون مصلين امام تمثال للسيد أو للسيدة ، لا يمكننا أن ننظر لهم إلا كما ننظر لأنفسنا ..
المهم لدى جميعنا أن نصل إلى السماء، وليس كيف نصل إلى السماء طالما الوسيلة غير مؤذية. ولهذا لم نرَ - بشكل فردي - أي خطر يتربص بأرثوذكسيتنا من انتصاب تمثالين أو ثلاثة أو عشرة في باحات بعض كنائسنا وأديرتنا، ولا من نضحه بماء مقدس ، ولا حتى من إقامة الصلوات بجانبه. 
الخطر الذي يتربص بأرثوذكسيتنا ويكاد يفتك بها هو تلاشي الوعي وإدراك الحقيقة من قبل مؤمنينا، وقلة الرعاية والتوجيه. 
هل تكريم الأيقونة عقيدة في الكنيسة الأرثوذكسية؟ وهل عدم تكريم التماثيل هو عقيدة ؟ 
لا شك أن الأيقونات ليست مندرجة في عقائد الكنيسة الأرثوذكسية المعروفة، ولكنها تقليد درج عليه المؤمنون أباً عن جد، فإذا ما بقي التكريم ممتداً لمن تمثلهم فلا ضير من ذلك، ولكن إذا صار وتحولت الأيقونة إلى مثل الحية النحاسية فهي ستصبح ضارة اكثر من التمثال على استقامة العبادة والإيمان الأرثوذكسيين. 
الأيقونة ليست عقيدة ، ولكنها وسيلة تساعدنا في الوصول إلى غاية سامية تتجاوز سمو الأيقونة نفسها. وعدم تكريم التماثيل ليس بعقيدة كذلك ولا تكريمها يعتبر تجاوزاً أو مخالفةً لعقيدة محددة، ليس في الكنيسة نص يحرّم تكريم التمثال كما لا يوجد نص يقول به كذلك. إنما لا التماثيل ولا إكرامها يرد في تراث الكنيسة وتقليدها. 
وماذا بعد ؟ 
لقد انتصبت بعض تماثيل في ساحات بعض أديرتنا في سوريا. فنياً هي تحف فنية رائعة متقنة، ولاهوتياً مرفوضة لدى البعض خوفاً من ضياع هويتنا الأرثوذكسية الرافضة للنُصُب والبعد الثالث الدنيوي. وبين هذا وذاك نخشى أن يكون لاهوتنا الأرثوذكسي قد تجمّد في القرن السابع، وصرنا لا نرغب أن نخرج من ذلك الزمن وننطلق منه نحو المستقبل . 
حتى العقائد التي لا يمسها التغيير تبقى اللغة التي تُصاغ بها مرنة وتتلائم مع كل زمان ومكان ، بشرط ألا يتم تحوير أو تغيير جوهر العقيدة، فكيف إذاً بما يتعلق بمسألة هي أصلاً ليست من بين العقائد؟ 
اعتراضنا على التماثيل هو أنها ليست من ضمن تراثنا وتقليدنا ولاهوتنا الأرثوذكسي، ولكن دعونا نتفق أن نصبها لم ولن يمس هويتنا الأرثوذكسية ولن يغير جوهر عبادتنا ، ولا خوف أن تتحول تلك المنحوتات إلى حية موسى النحاسية إلا إذا صار وتحولت الأيقونة إلى ذلك، وعندئذٍ فلنُزِل الإثنين معاً لأن خلاصنا لا يمرّ بأيّ منهما تحديداً ، إذ ليس هما أكثر من وسائل فقط لعبادة نقية مستقيمة هي أصلاً عبادة بالروح والحق، لا بالشفاه وطقوس الجسد. 
لهذا، نضع كامل ثقتنا في رعاتنا، ونحن من حولهم نشدد على أهمية العمل الرعائي للإكليروس وللمؤمنين المثقفين لاهوتياً، لكي يرعوا معاً القطيع الذي للمسيح ويمنعوا عنه الإنحراف وراء آلهة الكنعانيين وروح الزنى الفكري والطقسي. 
وروح الله القدوس ماكث معنا إلى الأبد وهو يرشدنا إلى كل الحق ويذكرنا بكل ما أُوصينا به. آمين


عن شبكة 
serafemsarof.com

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ملاحظة: هذا الموضوع ليس دفاعاً عن إقامة التماثيل واستخدامها كنُُصُب في أديرتنا وكنائسنا، بل هو تعبير عن رفض التعامل الغوغائي معها او التخويف منها، وتجاهل أهمية التوعية والتعليم المستمر للرعايا من أجل المحافظة على حسن العبادة الأرثوذكسية في المقابل.