الترهّب في الإيقونوغرافيا البيزنطيّة

كثيرون كتبوا عن حياة الترهّب، وكثيرون أيضًا رسموا رهبانًا معيّنين وصوّروا فضائلهم. بيد أنّ قلّةً قليلة صوّرت الحياة الرهبانيّة بالرسم والألوان. لا شكّ في أنّ الأيقونة التي سنتكلّم عليها نادرة، وربّما لم يرها القارئ في حياته ولن يراها، لكنّها تنتمي إلى التقليد الإيقونوغرافيّ، وتصميمها كما سنقدّمه يعود إلى العصور الوسيطة.
تهتمّ أيقونات الراهب بتصوير حياته الداخليّة وصراعه الروحيّ أكثر من تصوير حياته الخارجيّة وبرنامجه اليوميّ والأجواء الديريّة.
لذلك ينتمي هذا النوع من الأيقونات إلى فئة الأيقونات اللاهوتيّة.
إذ نذكّر القارئ بتصنيف الأيقونات الشائع في الدراسات النقديّة:
 أيقونات شخصيّة (تصوّر الشخصيّة في بورتريه)، أيقونات تاريخيّة (تصوّر أحداثًا تاريخيّة)، أيقونات تعظيميّة (تصوّر الشخصيّة في مجدها)، أيقونات لاهوتيّة (تصوّر قضايا لاهوتيّة) 
الراهب
يظهر الراهب في أيقونة الترهّب مصلوبًا على صليب، ويلبس ثوبه الرهبانيّ الأسود، ويغطّي الإسكيم رأسه علامةً على الجهاد الروحيّ الذي نوى أن يجاهده. رجلاه حافيتان ومسمّرتان على الصليب، لأنّه صلب نفسه عن العالم، يخفض نظره ويغلق فمه، وفوق القائم الأفقيّ للصليب وبالتوازي معه كُتِبَت العبارة التالية: «اجعل يا ربّ حارسًا لفمي وبابًا حصينًا على شفتيّ». ذراعاه مفتوحان ولكنّهما ليسا مثبّتَين بمسامير إلى الصليب، ويحمل بيديه مشعَلَين متّقدَين، وبالقرب منهما هذه
العبارة: «هكذا ليضئ نوركم للناس ليروا أعمالكم الصالحة فيمجّدوا أباكم الذي في السموات.»
على صدره رقعه تشبه القلب، ودرج الرسّامون على تلوينها بالأحمر، كُتِبَ عليها: «قلبًا نقيًّا اخلق فيّ يا الله وروحًا مستقيمًا جدّد في أحشائي».
وعلى بطنه صحيفة أخرى بشكل يافطة مع هذه الكلمات: «لا تنخدع أيّها الراهب بملذّات البطن». وفي أسفلها، على مثانته، صحيفة أخرى تقول: «أميتوا أعضاءكم على الأرض.» وتحتها أيضًا، تحت الركبتين، صحيفة أخرى تقول: «هيّئوا أقدامكم لطريق إنجيل السلام.»
الصليب
يشبه الصليب في هندسته صليب المسيح، لأنّ الحياة الرهبانيّة الأرثوذكسيّة هي اقتداء بالمسيح المصلوب. وكما أنّ بيلاطس أمر الجنود بوضع عبارة: يسوع الناصريّ ملك اليهود، نجد على صليب الراهب وفي المكان نفسه اجعل يافطة مسمّرة عليها هذه الكلمات: «لا تفخروا أمامي إلاّ بصليب ربّي.»
عند الأطراف الثلاثة الأخرى للصليب ثلاث دوائر تشبه الأختام، يُكتَبُ الحرف الأوّل من كلّ عبارةٍ فيها باللون الأحمر، والجملة مختصرة، يجد المشاهد نصّها الكامل بالقرب منها نحو الأسفل. في الدائرة على اليمين نجد الكتابة التالية: «مَن يثبت حتّى النهاية يخلص.» وعلى اليسار نجد هذه الكلمات: «مَن لا يتخلّى عن كلّ ممتلكاته لا يستطيع أن يكون تلميذ المسيح.» وفي الدائرة السفليّة مكتوب تحت مصطبة الصليب: « الطريق الذي يقود إلى الحياة ضيّق ومملوء بالأوجاع.»
حول الراهب المصلوب
إذا تتبّعنا ما رُسِمَ حول الراهب المصلوب من الأعلى إلى الأسفل، على مستوى الصليب، نجد على يمين الصليب قبّة كنيسة أرثوذكسيّة يعلوها صليب المسيح وتحتها مذبح. وعلى اليسار ظلام دامس نكاد لا نميّز فيه شيئًا.
في المستوى الثاني نحو الأسفل نجد شخصان، محارب صليبيّ وآخر عربيّ يطعنان الراهب، علامةً على الاضطهاد الذي تتعرّض له الكنيسة الأرثوذكسيّة من الكاثوليك والإسلام. وعلى مستوى الحربتين عبارتان. على اليمين: إقبل الهرطقة، وعلى اليسار: إجحد بإيمانك. وفي هذا المستوى نجد رايةً كُتِبَ عليها: «أستطيع كلّ شيءٍ بالمسيح الذي يقوّيني».
في أسفل الصليب وأسفل اللوحة نجد على اليسار وحشًا يشبه التنّين يلفظ لهبًا وأبالسة تشدّ الصليب بسلسلة حديديّة وعبارة تقول: «الجسد ضعيف ولا يستطيع أن يقاوم». وعلى اليمين صورة شاةٍ كُتِبَ بجانبها: «مال الدنيا»، وكتلة لهب كُتِبَ بجانبها: «أشواق الحبّ».
السماء
في القسم العلويّ للأيقونة تظهر السماء بألوانها الذهبيّة المنيرة. في الوسط يسوع المسيح يحمل بيمينه إكليلًا من الورد وبيساره تاجًا ملكيًّا ويستعدّ ليمنحهما للراهب.
تعبيرًا عن وعود المسيح: «مَن ترك أبًا أو أمًّا ... من أجلي ينال مائة ضعف في هذه الحياة، وينال الحياة الأبديّة»، درجت بعض أيقونات الرهبان على أن تصوّر المكافأة المزدوجة لمَن يزهد في هذه الدنيا:
- التاج يعبّر عن الخيرات الأرضيّة،
- والإكليل عن الخيرات السماويّة. ولا يُقصَدُ بالخيرات الأرضيّة المال والجاه والمناصب بل الخيرات الروحيّة والنفسيّة: الشعور بالسلام والراحة والطمأنينة. وفوقه عبارة «مَن أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه ويحمل صليبه ويتبعني». وعلى يمين المسيح ويساره ملاكان يحملان صولجانَين وكرَتين كما عهدنا أن نراهما في أيقوناتٍ أخرى.
في الأيقونة التي ننشرها لا تظهر بعض الأمور التي نجدها في أيقوناتٍ أخرى شبيهة، كأن يحمل ملاك اليمين صحيفة كُتِبَ عليها: «الربّ أرسلني لنجدتك»، وعلى صحيفة ملاك اليسار: «افعل الخير ولا تخش شيئًا».
أو ملاكان ينظران إلى الراهب ويدلاّنه إلى المسيح، ويحملان صحيفة بشكل يافطة مع هذه الكلمات: «جاهد لتنال إكليل البر فيمنحك الربّ تاجًا بأحجارٍ كريمة».
نجد نموذجًا لهذه الأيقونة مرسومًا في لوحةٍ جداريّة بحنية الكنيسة الرئيسيّة لدير فيلوثيو بجبل آثوس. ولا يهاجم الراهب المصلوب الزنى والأباطيل، بل أيضًا الخطايا الرئيسية السبع معًا مشخصنةً بشياطين مصوّرة بطريقة في غاية الروحانيّة. فيصوَّرُ مثلًا شيطان الغضب بلونٍ أحمر، والزنى في هيئة امرأة عارية، وشيطان الشراهة بدينٌ بشكلٍ مبالغٍ به. ويظهر فوق الراهب الحقيقيّ المنتصر سبعة ملائكة تحمل سبعة تيجان لأنّه حقّق سبعة انتصارات.
الخاتمة
درج التقليد على تسمية هذه الأيقونة: «حياة الراهب الحقيقيّ». إنّها حياة جهادٍ روحيّ دائم ضدّ كلّ المغريات الخارجيّة والأهواء الداخليّة، ولا يشنّ الراهب جهاده معتمدًا على قوّته الشخصيّة، بل على نعمة الله.
لا شكّ في أنّ الرسّامين استطاعوا أن يعبّروا بالصور جزئيًّا عن جهاد الراهب الروحيّ، ولكنّهم استعانوا كثيرًا بالكتابة كما لاحظنا، ممّا جعل هذا النمط من الأيقونات يميل إلى أن يكون تعليميًّا. فالمشاهد العاديّ لا يستطيع بسهولة فهم ما عبّر عنه الإيقونوغرافيّ في تصويره، لأنّه غير متآلف مع الحياة الرهبانيّة. لذلك تمّ اللجوء إلى الإكثار من الكتابة، وهو أمر نادر الحدوث في الإيقونوغرافيا، وهذا ما يجعل الأيقونة فريدة ومميّزة.


الاب سامى حلاق اليسوعى 
المصدر 
jespro.org