إذا كان استخدام الرمز فى الفنون بشكل عام يعكس منهجاً فكرياً ذا طابع فلسفى فيمكننا أن نتوقع ارتباط الفنون المسيحية المبكرة لاسيما الشرقية ذات المنحى الرمزى ولاسيما المصرية منها بمنهج فلسفى كونى وعقائدى فى آن واحد.
وفى سياق هذا البنيان الرمزى تجلت أعمال فنية هى بالأحرى أعمال مقدسة .. منها ما عرف باسم الأيقونة .. وهى الإمتداد المصرى لبورتريهات الفيوم، فتلك الأخيرة هى بمثابة الأشكال الأولى للأيقونة المصرية التى انتشرت فى العالم المسيحى الشرقى وأضحت ذات وظيفة رمزية مقدسة عند الفنان والمتعبد والمجتمع المسيحى بشكل عام والشرقى بشكل خاص..
فالأيقونة ما هى إلا امتداد للرسوم المصرية القديمة ولاسيما (بورتريهات الفيوم) التى تعد بمثابة حلقة الوصل بين القديم الذى تمَثل فى رسوم الأشخاص العاديين (الأرضيين) والجديد المتمثل فى رسوم القديسين ..وهى عادة المصريين فى تطويع التراث القديم بما يخدم الهدف والرسالة الجديدة..ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى دور الغنوصيين المسيحيين المصريين (المهرطقيين فى نظر الكنيسة) الهام فى انتشار هذا النوع من الفن فى القرون الميلادية الأولى..وذلك حين أمعنوا فى تبجيل وتقديس أرواح شهدائهم وقديسيهم من خلال الأيقونات.. وذلك مع اختلاف أو تطور الأساليب الفنية والرموز الملحقة بتلك الأيقونات الغنوصية (شكل1) وما جاء بعدها من أيقونات كنسية.
والأيقونة كلمة يونانية الأصل Eikon وهى تعنى حرفياً التشابه والمماثلة، وتتناول الأيقونة فى تصويرها الأشخاص أو بمعنى أصح القديسين (وقبلهم بالطبع السيد المسيح والعذراء مريم) أو الملائكة ..فهى لا تخرج عادةً عن هذا التحديد..وتكون فى معظم الأحيان على أسطح خشبية مجهزة..ولكنها كثيراً ما تغطى بطبقة من الرقائق المعدنية المطروقة وخاصة الذهب والفضة فى الكنيسة اليونانية أو البيزنطية مع كشف منطقة الوجه والكفين للقديس المُمثل..وذلك بهدف حماية سطح الأيقونة من العوامل الجوية وملامسة أيدى طالبى البركات..إلا أن هذه المعالجة قد تضيف فى نظر البعض مزيداً من الإحساس بالرهبة وعظمة ومجد الشخصيات الممثلة..وهو تأثير مشابه لما عهدناه فى استخدام المصرى القديم لمثل هذه المعادن فى اقنعة الملوك وفى الموضوعات اللاهوتية ولاسيما معدن الذهب.
وتتجلى أهمية الأيقونة فى تفرد الكنائس الشرقية (القبطية والبيزنطية والروم والأرمن) بها كفن أصيل له جذور تاريخية مرتبطة أيضاً بالفن المصرى القديم كما سبقت الإشارة.
والكنيسة الشرقية كانت دائماً ولا تزال تفخر بتميزها بهذا الفن المقدس والذى قد واجه فترات عصيبة حين حاول بعض المتشددين القضاء عليه بسبب اعتباره عودة إلى الوثنية..وكانت أشد هذه الفترات هجوماً على الأيقونة فى القرنين الثامن والتاسع الميلاديين (فترة اللاأيقونة)، إلا أن مصر كانت إلى حد ما بعيدة عن هذا الهجوم نظراً لسيطرة الحكم الإسلامي عليها آنذاك..
فعلى العكس من أماكن أخرى بالعالم ..ازدهرت بمصر الأيقونة وانتشرت مدارسها..وفى منتصف القرن التاسع الميلادى كانت هناك عودة قوية للأيقونة بل إنها انتشرت فى أنحاء أخرى من العالم مثل روسيا حيث ازدهرت أيضاً هناك.
وترجع أهمية الأيقونة أيضاً إلى بعدها الرمزى بالنسبة للكنيسة الشرقية ومـا له من دلالات على عمق هذا البعد الرمزى فى العقيدة ذاتها..، فإن للأيقونة دور كبير فى الأخذ والعطاء لقوة واستمرارية العقيدة المسيحية برمزيتها الشرقية.. فنظراً لتركيز الكنيسة الشرقية على الأيقونة وما تضفيه من روح دينية أصبح استعمال فنون تشكيلية أخرى داخل الكنيسة أمراً ثانوياً وغير متاح أحياناً..وهو ما حفظ للكنيسة الشرقية روحها الأصيلة المتميزة عن الكنائس الأخرى ولا سيما الكاثوليكية التى تحفل بل وأحياناً تعج بكافة أنواع الفنون التشكيلية..
ولقد ندر أن نجد فى المكتبة المصرية مرجعاً ما ..يستطيع أن يدخل بنا إلى هذا العالم الروحانى بشكل متعمق دون أن يفقد التعبير اللاهوتى والأدبى اللازم وأيضاً الخبرة الفنية (التشكيلية) فى آن واحد، ومع استمرار البحث عن مرجع علمي لاهوتي فنى يستطيع أن يوضح جلياً هذه الأبعاد.. وقع تحت يدى كتاب نادر وفى غاية الأهمية عن هذا الموضوع..
وهذا الكتاب هو لعالم روسي الأصل يُدعى بول أفدوكيموف (عالم فى اللاهوت وله باع فى نقد وتذوق الفنون التشكيلية)، ولقد ألف الكتاب باللغة الفرنسية..لغة البلد التى عاش بها بعد هروبه وعائلته من الاتحاد السوفييتى فى أثناء الثورة البلشفية..وذلك حسب ما روى الفنان الراحل د. إيزاك فانوس، أما الكتاب فقام بترجمته وإعداده ونشره الأنبا بيشوى الأنطونى.
لقد تناول أفدوكيموف بكتابه “فن الجمال ولاهوت الأيقونة” تلك الأبعاد بطريقة يصعب إيجادها بهذه البلاغة والصوفية فى أى من المراجع العربية المتاحة..،
ومثالاً على ذلك نجد أن تفسير الأستاذ الدكتور الفاضل عزت قادوس ومعه د. محمد عبد الفتاح (فى مرجعهما “الفنون القبطية والبيزنطية”)..لكون الخلفية بالأيقونة القديمة غالباً قاتمة اللون بينما يكون العنصر البشرى بها باللون الفاتح بأن ذلك بقصد تحقيق “قوة تعامل وتفاعل مباشر بين المشاهد أو المتعبد”، وهذا التحليل يتوافق بالفعل والأسلوب التشكيلى للأيقونة.
إلا أن هناك بعداً رمزياً حتى فى سبب اختيار هذا الأسلوب دوناً عن غيره ..فإن التضاد بين قتامة اللون فى خلفية الأيقونة ونصاعته فى الشخصيات المصورة يرمز إلى أن النور الإلهي إنما هو منبعث من الشخصية المقدسة ذاتها وليس من الجو المحيط بها والذى على العكس كان مظلماً..ولذلك لا يجب إضاءة الأيقونة بأضواء خارجية لأنها هى التى من المفترض أن تنير المكان بنورها المقدس، ولذا فإن فى تناولنا لهذه الجزئية سوف ندرج عدداً من التعريفات والتحليلات تماماً كما ذكرت فى تحليل هذا الكاتب الروسى..دون تدخل فى صيغتها لتصل بمعناها المراد توصيله.
ومن أهم ما كَتب هذا المؤلف عن الأيقونة :
“إن الإنسان الذى وجد مستحقاً لينظر من خلال الله لا يحتاج إلى مفاهيم ليدرك أمور الخليقة، ومعنى لا يحتاج إلى مفاهيم إنما يعنى أن يكون الفهم عن طريق الوحى والتأمل، لذا فإن رسام الأيقونات يدرك قيمة تثبيت النظر وتركيزه الذى يعلمنا مجدداً كيف نتأمل”، كما يقول “يعتبر الروح القدس هو (إصبع الله) الذى يرسم أيقونة الوجود بالنور الإلهى المولود غير المخلوق،
ولقد قال آباء السبع مجامع المسكونية عن الأيقونة (إن ما تقوله الكلمة لنا تظهره الصورة فى صمت،وما سمعناه بآذاننا قد شاهدناه بعيوننا)”، وفى مسألة كون (الروح القدس) هو الذى يقوم بإلهام وتنوير الفنان من أجل إنجاز أيقونة ما ..إشارة واضحة إلى أن هذا العمل لا يستطيع أن يقوم به فرد عادى .وإذا تم ذلك فإن الكنيسة لا تعترف بعمله ليوضع بين جدرانها..، فهى تعتبر أن هذا العمل هو عمل مقدس يجب على منفذه أن يكون ذى مواصفات إيمانية خاصة بل وإن مباركة الكنيسة لهذا الفنان قبل مبادرته بالعمل واجبة..كما أن هذا العمل يختلف بشكل جذرى حتى عن باقى الفنون التشكيلية المسيحية..وهذه النظرية بشكل عام قد وجدت من قبل عند أفلاطون الذى رأى أن الإلهام هو هبة من ربات الحكمة ليس إلا، غير أنه لم يكن يخص فى ذلك الفن الدينى، لكن هذه النظرية أيضاً قد ظهرت فيما قبل عند المصريين القدماء الذين اعتبروا فنونهم فنوناً مقدسة لا يقوم بها إلا أفراد من طبقة مدربة من الكهنة والفنانين وهو سر من أسرارهم الدفينة، ولذلك فإن اسم الفنان يختفى أمام هذه القدسية، فيصبح من الطبيعى ألا نرى أية إمضاءات على أغلب الأيقونات (إلا فيما ندر وخاصةً قديماً) وكذلك على الفنون المصرية القديمة.
ما الوظيفة الأساسية والروحانية التى من الممكن أن نراها فى الأيقونة فيعبر عنها المؤلف كاتباً:”إن سر التجسد يمزج الروح والروحيات مع الجسد والماديات، فنحن فى أثناء القداس الإلهى نسمع ألحان ونتأمل أيقونات مرسومة ونشتم رائحة البخور ونأكل خبزاً مادياً متحولاً من خلال السر إلى جسد الرب،كل هذا يجعلنا نعيش القداس الإلهى ونشعر به ونتذوقه.”
ومن هنا نستطيع أن نستنتج أن فى ظل هذا الجو المفعم بالغنى الروحانى تقوم الأيقونة وخاصةً تلك التى تصور السيد المسيح بدورٍ جوهرى إن لم يكن أوَلّى فى تحويل الطقوس المقامة فى أثناء القداس الإلهي من خيال إلى حقيقة..فالمتعبد مع تركيز وتثبيت نظره على أيقونة ..وخاصةً أعين السيد المسيح بهذه الأيقونة ..يستشعر علاقة مباشرة بينه وبين إلهه يستطيع أن يشعر بالفعل بتواجد هذا الإله بنفسه أو بجسده أو بروحه بسر عجيب..(وسواء كان هذا التواجد فعلى أو رمزى كما يراه الاخوة المسيحيون) فهو تواجد يعكس أهمية هذا العنصر الروحانى فى الكنيسة..ألا وهو الأيقونة ..مما يكون له شديد الأثر (السطوة) على نفس المتعبد الذى يخر خاشعاً راهباً..،
إلا أننا يجب أن نأخذ فى الاعتبار أن الشبه الذى تصوره الأيقونة هو شبه رمزى وليس واقعى وإلا وقع المسيحى فى محظور الهرطقة والوثنية وهو ما هاجمته جماعات (اللاأيقونة) من قبل..ولم تكن الكنيسة الأرثوذكسية لتعنيه أصلاً .
وهو ما يدخل بنا إلى أهم نقطة فيما يتعلق بالأيقونة..فكما أشار القديس اثناسيوس أن {“الكلمة صارت جسداً” فإن التجسيد هو الصورة المرسومة والأصل هو الإله} ، وإذا كان التبجيل للأصل فالصورة هى وسيلة الإنسان العادى للتقرب من مفاهيم يكون استيعابها غاية فى الصعوبة..”فناسوت السيد المسيح هو أيقونة لاهوته فهو الصورة المنظورة للإله غير المنظور”.
ومن هنا فإن الأيقونة هى اللاهوت المنظور للإله غير المنظور أى أنها ليست بفن ولا يجب أن تسبقها كلمة فن وإنما فقط الأيقونة، وهذه معلومة غاية فى الخطورة ..ليس فقط لعدم معرفتها من قبل المجتمع غير المسيحى أو المسيحى غير الشرقى الذى يطلق على شتى أنواع فنونه الكنسية فنوناً دون تحرج..، وهو ما يفسر تسمية عنوان الكتاب المشار إليه بهذه الكيفية والدقة..
تلك الرؤية الصوفية العجائبية ..لا نراها عجائبية إذا ما عدنا إلى رؤية الإنسان المصرى القديم الذى رأى فى فنونه الجدارية بالمعابد والعمارة الجنائزية حقيقة ولم تكن أبداً صوراً..تماماً كما هو الحال فى نظرة الكنيسة للأيقونة (رمز تواجد الإله أو انتظار تواجد الإله)..،
وفى نهاية حديثنا عن الأيقونة تجدر الإشارة إلى أن مجموعة أيقونات الشخصيات المقدسة الموجودة على الحامل المسمى (الأيقونستا Iconostas ) بالكنيسة الشرقية والذى يفصل بين الإيوان الرئيسى للكنيسة ومنطقة قدس الأقداس ..يتم ترتيبها بدقة شديدة..وهذا الترتيب له رمزية معينة قد تكون تفاصيلها كثيرة إلا أن هذا الحجاب الذى يعتبره الكثيرون وكأنه يفصل المؤمنين عن قدس الأقداس ما هو إلا همزة الوصل بين المؤمنين والله فى شخص المسيح والقديسين من حوله.
وفى ظل هذا العالم الروحانى الكبير الذى تولد من رحم الشرق الخصب ثم نما وتطور فى القرون الميلادية الأولى اتسع المجال لشتى التوجهات الصوفية والأساليب الرمزية ..واستعان الفنان القبطى بخياله فى تحوير وتطوير العديد من الرموز..وذلك فى ضوء تواصل فكرى بين أجيال من المصريين القدماء والمصريين المسيحيين ..إلا أن هذا التواصل إنما هو تواصل خفى فى كثير من الأحيان لا يظهر ولا يتضح إلا إذا نقبنا عن أصوله.
(شكل1) أحد بورتريهات الفيوم لسيدة تحمل مفتاح الحياة
_________________________________________________________
د. زينب نور
مدرس بكلية الفنون الجميلة / القاهرة
doroob.com