كيف للطبيعة الإلهية أن تدخل في الشكل الإنساني؟
أو كيف نفهم الإله غير المنظور بواسطة الأحاسيس الإنسانية؟
علاوة على ذلك، فالكنيسة تعبد الرب وتمجّده وتعترف به باستمرار لأن الله يتكلّم ويظهر نفسه لنا (عب1:1-4). ولكن الصورة التي يعلنها لنا رب الحياة ليست صورة من عزلة أبدية، بل هي من الاتحاد الأبدي.
الله محبة لأنه ثالوث. إن سر الله الثالوث هو السر العظيم للوحدة والشركة معاوال.
أيقونة الثالوث الأقدس، هي تعبير عن عبادة الكنيسة الأرثوذكسية لله الكلي القدرة. فالقديس أندره روبلاف، الراهب الروسي الأرثوذكسي، الذي رسمها (سنة 1422) قصد من ذلك تأكيد الحياة خلال سطوة الموت اليومي أبّان حكم التتر. تُعتبر الأيقونة في التقليد الأرثوذكسي نافذة روحية بين السماء والأرض. ومن خلالها تتأمل الكنيسة الكائنات السماوية مؤسسة ارتباطاً روحياً مع هذه الكائنات.
الخلفية الذهبية في الأيقونة تمثّل الجو الإلهي الذي يحيط بالله وبقديسيه. فإن تنظر من خلال نافذة الأيقونة بأعين الإيمان هذا يعني أنك تنظر إلى المجالات السماوية. ولأجل الأمانة لهذه التقوى التضرعية الجلية تأمّل لاهوتيو الكنيسة الأولى بسرّ تجسد الله ففتّشوا في العهد القديم عن طرق للتعبير عن تصوّر مسبق للثالوث الأقدس، فاستندوا على مقطع من كتاب التكوين في الفصل الثامن عشر الذي يتحدّث عن زيارة ودّية قام بها ثلاثة ملائكة إلى إبراهيم في منطقة ممرا. تشير هذه الزيارة، في مفهوم الكنيسة، إلى ظهور الثالوث الأقدس. وتتحدّث النصوص الليتورجية الأرثوذكسية فتقول: "مبارك إبراهيم الذي رأى وتقبّل الواحد ذا الطبيعة الإلهية الثالوثية".
وعبر الخطوط والألوان، تظهر أيقونة الثالوث مجد الله الحي، الذي يستعلن بذاته في بلوطات ممرا. فاللون الأزرق يرمز إلى ألوهية كلٍ من الثلاثة. اللون الذهبي في هالاتهم يرمز لقداستهم، وكذلك صوالجتهم تظهر هيبتهم الملكية. وفي الوقت نفسه، يتميّز كل شخص عن الآخر بالشكل أو بعلاقتة مع الآخرين، وبالألوان المعطاة لكل واحد منهم. المشابهة والتمايز، والثبات والحركة، الشباب والرشد، المرح والوقار، الشدّة والرحمة، الأبدية والواقع التاريخي: كل هذه تأتي سوية، فلا يوجد فصل أو اختلاط، ولا توجد فوضى في الأشخاص.
وجها الابن والروح القدس متجهان نحو الآب، الذي هو مصدر حياتهما والذي يدعوانه : "أبا" أو "أيها الآب" (مر36:14 وغلا6:4). الآب موجود ليعطي الحياة أبدياً للابن والروح القدس. الابن والروح القدس موجودان من الأبدية، منذ أن أعطى الآب نفسه لهما سرمداً.
الابن والروح القدس يستمدّان حياتهما من كونهما يعطيان نفسيهما للآب. فكل واحد يحيا لأجل الآخرين فقط، لا يستطيع الانفصال عنهما. كل واحد يحيا حياة الآخرين، ويعطيهما نفسه كلياً، بمعنى أن كل واحد من أشخاص الثالوث يكون في الآخرين (يو21:17).
دفق الحب هذا، الذي في الثالوث، يمكنه أن يكون منظوراً من خلال تاريخ الخلاص، الذي تمّ في مسار خلاص العالم وتقديسه في تدفق الحب. أعين وجوه الأشخاص الثلاثة قد تركّزت على كأس الحب المصلوب معبّرة عن الحنان غير المتناهي، وعن الوقار والرحمة والرأفة.
الآب بلباس ذهبي لمّاع: وضعية يده اليمنى تشير إلى عمل العطاء والإرسال المشتعل بالحب. "الآب يعطي الابن لأجل العالم" (يو16:3).
الآب يرسل الابن والروح القدس إلى العالم المخلوق، من أجل إشراك العالم في الحياة الإلهية. وترمز الشجرة المرسومة وراء الابن والروح كحركة استجابة الابن والروح نحو الآب. فيما الآب يعطي الابن لأجل حياة العالم، يتأنّس الابن ويعطي نفسه للآب ضحية من أجل غفران الخطايا ولحياة العالم.
الثوب الأحمر الدموي يرمز إلى رفع شكل الابن المتأنس بجسده ودمه المقدسين المقدمين في سر الشكر، ولهذا هو رئيس كهنتنا إلى الأبد، يرتدي "البطرشيل الأسقفي المذهب"، إشارة إلى مجد حبه المضحي.
في ايقونة روبلاف، شخص الابن هو البارز، لأنه أقرب إلينا إذ قد أصبح واحداً منا بتجسده.
الآب يعطي الكأس، الأبن يباركها ويقدسها بتقديم نفسه هدية، حينئذ الروح القدس ينقلها إلى العالم كونه روح الجماعة (2كو13: 12 ).
شخص الروح يرتدي الأخضر الشفاف لأنه هو الذي ينقل إلى العالم الحياة المعطاة بالرب التي هي الحياة الإلهية، فهو معطي الحياة (رو2:8). بقوة الروح القدس، وبلمسة حب الآب والابن، نحن ندعو المسيح "رب"، ونصرخ بالآب "آبا" ( رو15:8).
بهذا المعنى يكون الثالوث غير المنقسم النموذج والمنبع لوحدة الكنيسة: "فليكونوا واحداً كما نحن واحد" (يو20:17-22). هكذا صلّى الابن المتأنّس إلى الآب بشأن تلاميذه.
صورة الثالوث القدوس هذه لا تدع مجالاً لأية أنانية، سواء كانت فردية أم جماعية. كل انفصال هو مدمر للحياة. أية تراتبية أو طبقية بين الأشخاص تدمر الحياة. إنها تدعو كل البشرية لجعل هذا العالم إفخارستية محبة دائمة، البشرية مخلوقة على صورة الله (تك26:1)، ومدعوة لأن تحيا على صورته الإلهية، ولتشارك خبزها اليومي معاً.
في وسط الثالوث الأقدس، يوجد كلمة الحياة الصائر جسداً، المسيح مصلوباً ومرفوعاً لأجل حياة العالم. بالأعتراف بـ"يسوع المسيح – حياة العالم" يؤكّد المسيحيون عظمة الرب القائم، والبعد العالمي الكوني لملكه.
هناك دفع كوني في العهد الجديد الذي يعلن أن كل "ملء الله" ظهر بالمسيح، وأن "كل الأشياء" تتصالح عبر المسيح (افس9:1-10 وكول15:1-20 وعب1:1-3).
الكأس التي يباركها هو ويقدمها إلى العالم ترمز إلى الحياة التي صارت إفخارستيا فيها يقدّم نفسه هدية للآخرين وللشركة مع الآخرين. تحتوي الكأس، حسب التقليد الأرثوذكسي، الخبز والخمر المحوَّلين إلى جسد الرب ودمه، وتشكّل رسالة أساسية في هذه الأيقونة لأجل حياة العالم. فالخبز اليومي مسألة هامة في حياة الناس، ونقصانه يسبّب الجوع والنقصان والموت للعالم المقسّم بإجحاف بين الأغنياء والفقراء. الكأس الإفخارستية تدعو الكل للمشاركة اليومية بالخبز الواحد، وبالتالي، بكل المصادر والإمكانيات المادية والروحية مع ملايين الناس، الذين عبرهم يأتي الله الثالوث في رحلة حج إلينا في كل دقيقة.
أيتها الوحدة الكاملة في شركة، يا ينبوع الحياة الأعلى، أيّها الثالوث الأقدس الفائق البركات، المجد لك. آمين
الأرشمندريت بندلايمون فرح