شهادة فنان تشكيلى مصرى عن الأيقونات

تكونت حضارة وادى النيل حين عرف الإنسان المصرى أن لهذا الكون خالقاً بقوته أستطاع أن يبدع ما تراه العين وتسمعه الآذان وتعمله الأيادى وتسجله
 فكل شئ فى الوجود يأتى من السماء
 وعرف أيضاً بأحاسيسه الوجدانيه أن الإله الأعظم يسطع بنوره فيضئ الحياة وينشر بين البشر الحب والطمأنينة وعرف أيضاً أن لهذا الكون نظاماً أزلياً أبدياً يتعاقب فيه النور ( النهار ) والظلام ( الليل ) .
وكانت بهذه المفاهيم والمضامين الحضارة التى نشأت على ضفاف النيل بما يأتيه من الخصب والنماء ، فهذه الآلهة " نوت " تلمس الأرض " جب " بيديها ورجليها وما بين السماء والأرض قام " شو " إله الفضاء بحمل قرص الشمس " رع " ... وظهر على الجانبين " خنوم " الفخرانى الذى يبدع الأشكال من الصلصال ليعطيها رع نسمة الحياة ...
وكان هذا ثالوث الخلق وبه تكونت الحياة بكل ما فيها من عقيدة وفكر وفلسفة . وإذا كان " خنوم " هو المبدع والمشكل لجماليات الحياة ، فقد أستطاع الإنسان المصرى أن يتذوق ويبدع مفاهيم الجمال ،
فظهرت الفنون بما فيها من تشكيلات ترجمت ببراعة تفوق كل تصور فى النحت والتصوير والشعر والموسيقى بل وفى أسلوب العبادة . فكان القداس الذى يؤدى فى المعبد ، وكانت التسابيح والمزامير التى تؤدى فى القداس ، وتعاقبت الأجيال وتداخلت الحضارات ومع أمتزاج الحضارة الهيلينية مع الحضارة المصرية بعد فتوحات الإسكندر الأكبر تولدت فى مصر الحضارة الهيلينيستية .
ومما هو جدير بالذكر عن الطبيعة المصرية منذ الأزل هو كيف أن الصحراء أستطاعت أن تمتص الطمى حول ضفاف النيل الذى كون بدوره الأرض الخضراء والتى أستطاعت أن تمتص المجتمعات البشرية حول ضفاف النهر ... فهى أيضاً ، أى الطبيعة المصرية أستطاعت بدورها أمتصاص أى فكر أو ثقافة ترد إليها وسرعان ما تتولد هذه الخاصية ، أى خاصية الأمتصاص ليتولد منها إضافة حضارية . 
وهنا لابد من ذكر كيان حضارى فى مصر سمى عصر " الجريكو- رومان " وهذا العصر تبلورت فيه كل حضارات البحر المتوسط " بحر الروم " مصرية + إغريقية + رومانية .
فظهرت أنماط كثيرة فى شتى مجالات العقيدة والآداب والفنون وكان بين هذه الأنماط عناصر تشكيلية مادتها هى الأساطير التى تعايشت مع الآداب المصرية وأندمجت عناصرها فى أشعار الشعب وموسيقاه وأصبح الموال وعازف الأرغول والراقصون والراقصات بحركاتهم الفلكولورية ، هى من العناصر الواضحة فى شتى مجالات الفنون سواء كان تصويراً جدارياً أو أوانى خزفيه أو منسوجات من الكتان والصوف بل وأصبح للأساطير أهمية كبرى فى تشكيل كل عمل إبداعى إن كان فناً تشكيلياً أو شعراً أو غناء فلكولورياً . 
ويقع عصر " الجريكو – رومان " فى الفترة قبيل ظهور المسيحية وأنتشارها بصورة سريعة مبتدئة من أورشليم ( القدس ) إلى أسيا الصغرى ثم إلى بلاد الإغريق والرومان ثم الشاحل الشمالى لأفريقيا ثم مصر التى بشرها القديس مرقس الرسول بالمسيحية فى القرن الأول الميلادى والذى أستشهد فى مدينة الإسكندرية بعد إنشائه لمدرسة الإسكندرية اللاهوتية والتى تعتبر حجر الزاوية للحضارة المسيحية فى كل أنحاء المسكونة حيث كانت الإسكندرية هى المركز الدائم للحضارة البطلمية ، لا سيما أن بها جامعة الإسكندرية القديمة . 
فكان أنتشار المسيحية فى مصر مواكباً لعصر مزدهر بالمضامين الفكرية والفلسفية والإبداع الفنى فى شتى مجالاته وإن كان للحكام وهم من الرومان طغيان وإضطهاد للعقيدة الجديدة المسيحية ، إلا أن المصريين وجدوا فى التعاليم المسيحية مضمون الخلاص من الفكر الوثنى الرومانى والخلاص من حكم ينادى بالسادة الرومان والعبيد وهم الشعب المصرى فى المفهوم الرومانى .
وكان عصر الأستشهاد الذى راح ضحيته عناصر متقدمة عقائدياً وفلسفياً ثمناً للإيمان بالمسيح . 
ظهرت القداسات وممارستها فى أماكن بعيدة عن إضطهاد الطغاة وظهرت الألحان الكنسية وهى ألحان موروثة من الموسيقى المصرية الخالصة . كذلك ظهرت فنون الأيقونات Iconography كما ظهرت فكرة إقامة حامل الأيقونات  Iconostasis الذى يوجد خلفه الهيكل أى قدس الأقداس حيث تقدم الذبيحة وهى سر التناول من جسد ودم يسوع المسيح ... وبداخل الهيكل توجد " الشرقية " وهى عبارة عن حنيه يرسم بداخلها المسيح جالساً على كرسى مجده محاطاً بالحيوانات الأربعة غير المتجسدة ومعهم الأربعة والعشرون قسيساً يحملون المجامر الذهبية محاطين بالشاروبيم والسيرافيم الممتلئين أعيناً ( سفر الرؤيا للقديس يوحنا ) وهكذا فالفن القبطى التشكيلى أستطاع أن يترجم المضمون اللاهوتى فى شتى المجالات 
1- التصميم المعمارى للكنيسة وينقسم إلى ثلاثة خوارس الهيكل – ثم خورس المؤمنين – ثم خورس الموعوظين ، أى من يرغبون فى الأنتماء للكنيسة . 
2- حامل الأيقونات وهو فن الخشب المطعم بالعاج ويشكل بطريقة هندسية من وحدة المندورلا Mondorla  وهذه الوحدة فى حد ذاتها ترمز إلى فكرة الأزلية والأبدية ؛ حيث إن هذا الكون أبدعه الله منذ الأزل حيث لا نهاية له إلى أبد الأبدين 
3- الأيقونات وكلها توضع داخل الكنيسة حسب طقوس ترمز إلى المضامين اللاهوتية فى العقيدة المسيحية ، حيث يخرج الكاهن ومعه مجمرة البخور " الشورية " ليؤدى صلوات تتعلق بكل موضوع من هذه الأيقونات .
كما أن الأيقونات " تزف " فى مناسبات متعددة أى فى مناسبات الأعياد الكنسية السيدية " الأعياد الخاصة بحياة السيد المسيح " ، كذلك أعياد الشهداء والذين توجد لهم أيقونات بالكنيسة . 
وتمر الأجيال ونأتى إلى القرن الثامن الميلادى ، حيث ظهرت بدعة مصدرها البطريرك الملكانى فى القسطنطينية والتى تدعو إلى حرب الأيقونات وتحطيمها والتخلص منها .
 ولما كانت مصر ولاية تتبع الإمبراطورية الرومانية الشرقية ومركزها فى القسطنطينية وحاكمها أى حاكم مصر يعتبر أيضاً بطريركاً بالكنيسة الملكانية فى مصر . فقد عانت الكنيسة القبطية الوطنية من طغيان الكنيسة الملكانية الكثير . وأستغل هذا البطريرك الملكانى أوامر القسطنطينية فى القضاء على كل الأعمال الفنية الرائعة فى الكنيسة القبطية المصرية " الوطنية " ...
وكان هذا العصر بمثابة تدهور للحركات الفنية فى مصر وفى عالم البحر المتوسط ... ومنذ هذا العصر حتى القرن السابع عشر خلت الكنائس فى مصر من الأعمال الفنية المدروسة والتى كان لها مدارس فنية معروفة بإسم القباطى نسبة إلى القبطية أى المصرية ... فبين القرن السابع عشر إلى التاسع عشر ، أستطاعت الكنيسة القبطية أن تستعين ببعض الفنانين المصورين مثل يوحنا الأرمنى وأنسطاسى الرومى وإبراهيم الناسخ الذى قام بأعمال كنيسة الشهيد أبى سيفين بمصر القديمة وإبراهيم الناسخ ألتزم إلى حد كبير بالتقاليد الفنية المصرية بعكس الآخرين الذين قدموا فنوناً متأثرة بالمدرسة البيزنطية ...
وبعد هذه الفترة لم تظهر أى أجتهادات لإبراز الفنون القبطية حتى أنشئ معهد الدراسات القبطية سنة 1954 بالقاهرة فى عهد الأنبا يوساب  . 
ومن خلال معهد الدراسات القبطية والذى أنشئ ليسد ثغرات كثيرة فى جدار الثقافة المصرية ، كان من أهم أهتماماته إيجاد حركة فنية قبطية معاصرة خالصة أستطاعت أستخلاص القيم الفنية فى التراث المصرى القديم وخلال العصور لنتعايش مع العصر من جهة ، ونخدم المضمون اللاهوتى لترجمة العقائد المسيحية للكنيسة القبطية من جهة أخرى ...
وقد أستطاعت هذه الحركة أن تشق طريقها بصعوبة فى البداية لما لاقته من عدم فهم للقيم الفنية المصرية وتذوقها ومعرفة أبعادها ، حيث كان للغز الأوروبى بالغ الأثر فى محاربة هذه الحركة فى بدايتها ؛ حيث إن عقدة المثاليات الغربية راسخة فى وجدان بعض رجال الدين الذين يمجدون دائماً هذه المثاليات الغربية . لكن هذه الحركة لحسن حظها وجدت التشجيع من رئاسة الكنيسة بقيادة البابا شنودة وبفضل أنتشار الكنائس القبطية الجديدة فى بلاد المهجر فى أرجاء المسكونة ، أمريكا وأستراليا وأوروبا وأسيا وأفريقيا . 
فمع أنتشار هذه الكنائس التى تحتاج إلى شغلها بالأعمال الفنية القبطية الأصلية التى تترجم العقيدة والعقائد والطقوس القبطية ، تحقق هذا الأنتشار الذى يعد الآن بمثابة حركة فنية قبطية معاصرة متصلة أتصالاً مباشراً بالجذور المصرية وقيمها الفنية الرائعة التى يستطيع الإنسان المعاصر تذوقها لما فيها من تعبير أستطاع أن يخاطب المتلقى ويحافظ على كل التقاليد المطلوبة للإستمرار الحضارى للعقيدة المسيحية فى الكنيسة القبطية . 
ولما كان الفن القبطى فى شتى مجالاته هو وريث لحضارة مصر الفرعونية وما تلاها من تداخل للحضارات التى تعايشت مع الحضارة المصرية ، لعب الفن القبطى دوراً تعبيرياً غاية فى الأهمية مستغلاً القيم الوراثية فى الفن المصرى كما يلى :- 
1- التعامل مع البعدين ، أى الطول والعرض وليس البعد الثالث وهو العمق أو المنظور ... إذا أن بُعدى الطول والعرض بعدان ثابتان لا يتغيران . أما البعد الثالث فهو البعد المتغير نحو نقط التلاشى فى المنظور ... ولما كان المفهوم للعقيدة هو من الثوابت فقط أحتفظ الفنان المصرى حتى العصر القبطى بهذا المضمون . 
2- إستغلال الكتلة مع الفراغ فى حساب لهذه الكتلة وشغلها الفراغ بإحساس جمالى يؤكد رسوخ النظام الكونى فى مجال التشكيل ... 
3- إستغلال المجموعة اللونية وكلها من محاجر ومناجم مصر وهى عبارة عن أكاسيد طبيعية وأهمها :- 
‌أ- الأصفر الأوهرا . ‌  ب- الطينة النية .            ج- الطينة المحروقة . 
‌د- أسود ( العظام ) .  ه- أكسيد الحديد الأحمر .   و- الأرزق النيلة . 
‌ز- الأبيض الجيرى . 
4- إستغلال الخط فى مجال التصميمات إن كانت تصميمات فى مجال النحت الحانطى " البارز " والذى كان لعملية النحت على الحجارة الـ Relief على واجهات المعابد والكنائس ليتعامل مع ضوء النهار القوى فيظهر الأشكال على الجدران . كذلك إستخدام الخط فى إبرز التصميمات وتأكيدها وخصوصاً فى مجال التصوير الجدارى .
أما عن الألوان فلها رموزها التى تخدم بدورها المضمون اللاهوتى
v فاللون الأصفر الأوهرا رمز للقداسة التى تنبعث من النور الإلهى ويستخدم عوضاً عن الذهب . 
v اللون الأحمر أكسيد الحديد بدرجاته يرمز إلى المجد والفداء . وفى المفهوم العقيدى لا يوجد مجد بدون فداء ، فالمجد دائماً يحتاج إلى الفداء ، كذلك رمز الفداء على الصليب . 
v اللون الأبيض يرمز إلى الطهارة القلبية " أغسلنى فأبيض أكثر من الثلج " ( من مزامير داود ) . 
v اللون الأزرق يرمز إلى الأبدية التى لا نهاية لها ... 
v اللون الأسود يرمز إلى الوجود ويستخدم فى تأكيد الأشكال وإبراز التصاميم . 
هذه القيم التشكيلية تعطى دائماً ملامح الشخصية المصرية جنباً إلى جنب مع إستغلال طرق الأداء فى التشكيل ؛ وخصوصاً فى مجال تشكيل الأيقونات أو الرسوم الجدارية ( الإفرسك ) ... أو ( الموازاييك ) . 
وإن كان لفن الأيقونات مواصفات فى تحضيرها وطرق أدائها مستمدة من التقاليد الفنية المصرية المتوارثة عبر الأجيال ، فكان لمدرسة الإسكندرية القديمة أكبر الأثر فى نشر هذه النوعية من الفن فى مجال أخر يتعرض لهذه الطرائق والأداء ، وهذا ما يقوم به الآن قسم الفن فى معهد الدراسات القبطية فى إعطاء دراسة وافية عملية كان من أهم ظواهرها ظهور حركة فنية معاصرة فى الفنون القبطية ... 
أما عن التصوير الجدارى ( الإفرسك ) فله مواصفات أخرى ، حيث إن تحضيره يتطلب عمل خلطة من الجير النقى والرمل وتوضع على الحائط مسطحات مستوية ، ويقوم الفنان قبل جفافها بتشكيل ما يريد ، ويتطلب هذا النوع من العمل مهارة فنية عالية الخبرة ... 
كذلك التشكيل للأحجار الملونة ( الموزاييك ) يتطلب مواصفات خاصة فى التصميم والأداء ، كذلك طرق تركيبه على الحائط . 
هذا موجز لابد منه حتى تتأكد أن حضارة وادى النيل مازالت تسرى ، وتعطى فالفن التشكيلى المصرى باقٍ ليؤكد أن ويعبر عن مضمون العقيدة فى شتى العصور والمجالات . 


إيـــــزاك فانــــــوس +
أستاذ ورئيس قسم الفن القبطى
 بمعهد الدراسات القبطية