تطبيق قواعد المنظور فى الفن الإغريقى

تتألق بين أهم التجديدات التى إبتكرها اليونانيون فى ميدان الفن تجديدات ثلاثة : أولها تمثيل الجسم الإنسانى تمثيلاً طبيعياً يشمل قسماته فضلاً عن الرداء الذى يكسوه ،
وثانيها البورتريهات الشخصية ،
وثالثها التصوير والنقوش البارزة ذات الأبعاد الثلاث .
وقد أخذت ثلاثتها تتطور بخطى متساوية فى الوقت نفسه لأنها تشكل جزءاً من السعى الحثيث نحو التمثيل الطبيعى فى الفن حيث يتلاقى حس الإغريق الفطرى بالجمال مع أسلوبهم العقلانى ، ولو أنا أردنا تناول محاولات الإغريق الأولى فى تمثيل الفراغ أى فى إظهار العمق فوق سطح مستو بتصوير البُعدين وهو ما نسميه بالمنظور لتحتم علينا أن نعرض أولاً للمنظور الخطى وأعنى به تقلص جانبى الأشياء المستطيله ، وكذلك للتضاؤل النسبى [1] وأعنى به وضعة ثلاثة الأرباع والمشاهد المتعلقة بها بالنسبة لأشكال البشر والحيوانات بأعضائها المختلفة ، وكذلك الأدوات كالتروس الحربيه والحوامل أو الركائز الثلاثية القوائم وغيرها من الأشكال الأشد تعقيداً كالمركبات الحربية والسفن ،
وأن نعرض كذلك لمدى التطور الذى مر به الفنانون الإغريق كى يصوروا الأشياء البعيدة  بالنسبة لعين المشاهد أصغر حجماً من المصورة فى مقدمة المشهد  وعلى الرغم من بدء دراسة هذه المشاكل جميعها فى اليونان قبيل عام 500 ق . م . وبعده بقليل فقد أكتملت القدرة على إيضاح التضاؤل النسبى - على الأقل بالنسبة للجسم الإنسانى - أسرع من غيرها . 
بينما مضى التطور فى المنظور الخطى بطيئًا ولم يبلغ الكمال الذى بلغه التضاؤل النسبى .
والمنظوركما سبق القول هو طريقة لتمثيل العمق فوق سطح النقوش البارزة الذى يبدو لعين الإنسان مستوياً ، ومن ثم فهو ظاهرة إيهامية لا حقيقية ، والواقع أن الأشكال عندما تتراءى للعيون تحت تأتير أشعة الضوء التى تنعكس من الشئ على المشاهد تمر بعدة تغييرات شبيهة بالتغيرات التى تحدث داخل آلة التصوير الحديثة حيت تنفذ أشعة الضوء المنعكسة من الأهداف المصورة خلال العدسة لتسقط فوق الشريحه الحساسه ، فضلاً عن أن المشهد يظهر لمشاهد يتطلع من نقطة ثابتة هى نقطة الرؤية . 
وليس المنظور فى حقيقته إلا قانون « البصريات » الذى يتحكم فى العين الانسانية ، والمفروض أن يستطيع الفنان تحقيق الرسم المنظور بمجرد الملاحظة إذا نظر فى إتجاه واحد من زاوية الرؤية بلا حاجة إلى أن يعرف القوانين التى تخضع لها هذه الظاهرة ،
فهو إذا وقف فى نهاية صف من الأعمدة فسيلحظ تضاؤلاً نسبياً ظاهرياً فى حجم كل عمود بالقياس إلى العمود الذى يسبقه ، كما أنه إذا تطلع الى مبنى مستطيل عن بعد ، أو الى إلى أشياء مستطيله فى حجرته فسيدرك أن الخطوط التى تشكل جانبى السطح والمتوازيه فى حقيقة أمرها تبدو وكأنها تتقارب عند نهايتها ،
بل أنه يستطيع بالملاحظة الدقيقة تخيل درجة هذا التقارب بدقة دونما حاجة لكى يعرف أن هذين الخطين يلتقيان فى النهاية على مسافة بعيدة فى نقطة معينه تسمى " نقطة التلاشى " ، وهو ما يكشف عن إمكانية الرسم المنظور الذى يمثل مظهر الأشياء دون فهم قانون المنظور ،
حتى أن بعض الشعوب القديمة مثل الصينيين قد أبتكروا تقنية فى الرسم كشفت عن حس مرهف بالمنظور فى لوحاتهم ، وأغلب الظن أنهم لم يكونوا على معرفة بالسر العلمى وأنهم إنما حاكوا ما يرونه فحسب .
ونستطيع لهذا أن نقول أن نقطة التلاشى هى مفتاح فن المنظور الحديث ليست مفهوماً إفتراضياً بل هى ظاهرة مرئية . وقد أستنتج بعض الكتاب المعاصرين المهتمين بأمر المنظور – من ملاحظاتهم لتقابل الضلعين الجانبيين فى المبانى المصورة ببعض اللوحات الرومانية وظهورهما وكأنهما ممتدان حيث يلتقيان عند نقطة التلاشى –
أن الفنانين القدامى كانوا على دراية علمية بقواعد المنظور ، غير أن جيزيلا ريختر ترد هذا الرأى بقولها أنه من السهولة أن يلمح أى شخص دقيق الملاحظة ذلك التقابل الحادث بين ظلعين جانبيين فى مبنى ، والذى يجعلهما يلتقيان عند نقطة بعيدة يستطيع تخيلها من تلقاء نفسه دون إلمام بقاعدة ما ،
وأن قواعد المنظور لو أنها كانت معروفة لعدد بسيط من الفنانين لكان من السهل أن تصبح هذه المعرفة مشاعاً فلا تقتصر على بضع اللوحات الباقية لنا فحسب ، ثم أن إكتشاف النظرية العلمية للرسم المنظور وممارسة الفنانين لها فى عصر النهضة قد أغلق الباب أمام الملاحظات العشوائية . لقد أصبح رسم المنظور السليم ظاهرة شائعه من يومها حتى الآن ، ولم يحدث خروج على هذه القاعدة إلا فى تلك التشويهات المقصودة التى يمارسها بعض الفنانين العصريين
وإذا شئنا تفهم التاريخ المبكر لفن التصوير الإغريقى فلا مفر من عودة إلى إنجازات الحضارات المصرية والعراقية والكريتية فى هذا المجال ، فقد كان الإغريق شغوفين بالأخذ عمن سبقوهم .
وخلال بضعة آلاف من السنين كانت التكوينات ذات البعدين نمطاً مألوفاً ولم تكن تصور المسطحات الأمامية للأشياء ، وكان الإيحاء بالعمق يتحقق عن طريق تداخل الأشكال ، فبدلاً من التضاؤل النسبى للأشياء المتعاقبة كانت يجرى تنسيقها فى مجموعات متراكبة ، ولم تكن هناك أى محاولة للضمور النسبى للأشكال الإنسانية أو الحيوانية أو الجماد كالتروس والمركبات والسفن ، وكانت الوجوه والأذرع والسيقان تصور بالمجانبة بينما تصور العيون والصدور وأحياناً الأقدام بالمواجهة ، وظل الجمع بين المجانبة والمواجهة فى تصوير أجزاء الجسم الإنسانى تقليداً مرعباً عند المصريين ، وكذلك كان الأمر فى الفن البابلى والآشورى حيث صورت كافة الأشكال من مبان وأعمدة ومقاعد وكل الحيوانات والطيور فى مقدمة الصورة بالمجانبة أو بالمواجهة ، وجمعت أشكال الإنسان أثناء الجلوس أو الحركة بين الوضعيتين المجابهة والمجانبة معاً ، ولم يوح بالعمق سوى بضعة أشكال نادرة تداخلت فى بعضها البعض .
كذلك لم يضف الكريتيون والموكانيون – مع كل ما عرف عنهم من ولع بالحركة – أى إسهام إلى هذا الأسلوب القديم ، وكان الإغريق وحدهم هم الذين حاولوا بفطنتهم وشغفهم بالبحث أن يصلوا إلى تمثيل الأشياء كما يرونها ومن ثم طلعوا على العالم بالرسم المنظور . 

عن كتاب الفن الاغريقى 
الدكتور / ثروت عكاشة 
الهيئة المصرية العامة للكتاب 
1982

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1- التضاؤل النسبى هو ايحاء بالعمق الفراغى والبعد الثالث فى مسطح اللوحة نتيجة ضمور ابعاد الاشياء واحجامها شيئا فشيئا كلما امعنت عمقا . وهو خدعة بصرية تضفى لونا من الوان الايهام بامتداد ذلك العمق .