الفن "غير المنظورى"

كان الفنان المصرى القديم مكرساً لخدمة الدولة المصرية والعقيدة المصرية .
كان مدرباً على إنتاج نوع من الفن هو بطبيعته سرمدى وخالد ولا يتعلق بالزمن . 
وفى جميع النقوش وأعمال الزخرفة التى أبدعها هذا الفنان على الجدران على جدار المقابر والمعابد ، كان من الضرورى أن يتجاوز الفنان التعبير عن " اللحظة العابرة أو الخاطفة " ويسمو فوقها .
وعندما كان يقوم الفنان برسم أو تصوير شكل الجسم البشرى ، فإنه لا يرسمه أو يصوره حسبما يبدو له فى لحظه عابره خاطفة ، بل كان يقوم بتضمين الرسم أو الصورة كل المعالم الأساسية الهامة التى يعبر بها عن ماهية الجسم البشرى وجوهره . 
وفى التعليق على الترجمة الإنجليزية لكتاب " أسس الفن المصرى " من تأليف هنريش شيفرز [طبعة جامعة أكسفورد سنة 1974 ] حاولت " إيما برونر – تراوت " أن تلقى الضوء على المشكلة التى تواجه متذوق الفن المعاصر المتدرب على مفاهيم الفن الحديث ، حين يحاول تذوق أو فهم الفن المصرى القديم بمفاهيمه وذاتيته الخاصة . 
وإستخدمت إيما برونر – تروات مصطلح " غير المنظور – أو – غير المنظورى " لوصف وتصنيف الفن المصرى القديم ، وذلم مقابل مصطلح " المنظور " المستخدم فى الفن الحديث .
وفى هذا المجال يعتبر مصطلح غير المنظور أو غير المنظورى أفضل بكثير من المصطلحات الألمانية البالغة التعقيد التى إستخدمها هنريش شيفرز مؤلف الكتاب ، لوصف وتصنيف الفن المصرى القديم بصفة عامة ، ووصف رؤية الفنان المصرى القديم بصفة خاصة . 
ومن المعروف أن الفن المصرى القديم مجرد تماماً من قواعد " المنظور " . ومن المعروف أيضاً أن الفنان المصرى كان يعبر عن أجزاء الموضوع ، جزءاً جزءاً ، طبقاً لما هى كائنة عليه أبداً وليس طبقاً لما تبدو عليه هذه الأجزاء منظورياً وسط الأجزاء الأخرى الضرورية لتحديد المنظر .
وهذه التركيبة من الأجزاء أو الجزئيات تبدو غريبة وغير منطقية بالنسبة لمتذوق الفن المعاصر المتدرب على مفاهيم الفن الحديث .
بل وقد تبدو هذه الأجزاء فى وضع " البروفيل " الغالب عليها ، كما لو كانت رسوماً أو صوراً بسيطة ساذجة ، مع أنها فى حقيقة امرها عبارة عن وصف دقيق كامل لهذه الأجزاء والجزئيات التى يتكون منها المنظور المراد التعبير عنه . 
وفى بداية الأمر كان الفنان المصرى القديم ، هو الذى يقوم بإختبار وتحديد أجزاء المنظر ويضعها فى شكل أو إطار تتدخل فيه رؤيته الشخصية بنحو أو بآخر ، ولكن بمرور الوقت نشأ عرف تطبيقى تحول إلى قواعد صارمة لتحديد النماذج والأنماط التى أصبحت معياراً مقبولاً لتنفيذ العمل الفنى ، وملزماً لجميع الفنانين . 
والفن " غير المنظورى " طبقاً للتعريف الذى أوردته " إيما برونر – تروات " هو الفن الذى يعبر عن " حقيقة " الموضوع كما هى عليه ، وكما سوف تظل باقية عليه .
أما فن " المنظور " فهو يعبر عن الموضوع كما هو عليه فى لحظة عابرة أو زمن عارض . 
ومعنى هذا أن الفنان المصرى القديم ، كان يعبر " عما يعرفه " عن الموضوع أكثر مما يعبر " عما يراه " من هذا الموضوع فى لحظه ما . وكان الفنان فى ذلك خاضعاً تماماً للقواعد الأساسية العامة التى كانت تتحكم فى الفن المصرى القديم .
وطبقاً لهذا المعنى أيضاً فإن الفن " غير المنظورى " يتضمن بداهة أن الصورة أو المنظر يتحدد وفقاً لقواعد صارمة وملزمة معروفة سلفاً .
وأن موضوع الصورة أو المنظر لا يتعلق من ناحية الزمن " بما قبل " أو " بما بعد " .
وهذه الرؤية الفنية الخاصة تتمثل فى الأعمال الفنية التى أبدعها الفنانون المصريون القدماء ، والتى نرى فيها بوضوح التزام الفنانين – على مدى التاريخ المصرى القديم – بالعمل طبقاً لقواعد محددة سواء ناحية التعبير عن " اجزاء " الموضوع ، أو من ناحية الخطوط التى تحدد معالم الموضوع بأكمله ، أو من ناحية فصل " العمل الفنى " عن " العالم الحقيقى " . 
من الملاحظ أن فن " التصوير " المصرى القديم كان لا يعنى بالمكان أو " المسافة " . وذلك بالنظر إلى أن التأثيرات المكانية أو التأثيرات الناتجة عن تقدير المسافات بين أجزاء الصورة ، لا تضيف شيئاً إلى ما يريد الفنان أن يعبر عنه . 
وكل ما ينطبق على رؤية الفنان لأجزاء الصورة ، ينطبق أيضاً على رؤية الفنان للصورة كاملة بكافة عناصرها ، كما ينطبق كذلك فى حالة تصوير الجماعات بداخل الصورة الواحدة . بل وينطبق على رؤية الفنان عند تقديره لمدى أهمية اى عنصر من عناصر الصورة عن طريق تحديد حجم هذا العنصر بالمقارنة النسبية مع حجم العناصر الأخرى التى تتضمنها نفس الصورة . فالملك على سبيل المثال لابد أن يكون أكبر حجماً من الملكة ، كما أن الملكة لابد أن تكون أكبر حجماً من النبلاء وهكذا . ...
وفى الفن " غير المنظورى " يصبح الزمان والمكان تحت السيطرة التامة ، فلا يمكن القول بأن الفنان يغفل هذين العنصرين تماماً أو يعتبرهما وكأنهما غير موجودين بالمرة . فهما موجودان بالضرورة ولكن بالقدر أو بأقل قدر لا يمكن تلافيه للتعبير عن الوضع أو الحركة . 
وطبقاً لمعايير الفن " غير المنظورى " تتلاشى أهمية أن يكون للصورة " صدر " FOREGROUND أو " خلفية " BACKGROUND .
وعلى سبيل المثال فإن الصور المنقوشة على جدران المقابر والتى تتكون من عناصر محلية من البيئة المصرية كنهر النيل والوادى وسفوح الجبال ، ليست صوراً مما نطلق عليها فى مفهوم الفن الحديث " مناظر طبيعية " بمعنى أن يظهر النهر مثلاً فى صدر الصورة ثم يمتد السهل أو الوادى فى منتصف الصورة بينما تبدو سفوح الجبال وقممها بعيدة فى الخلفية . 
وفى هذا المجال ، ليس هناك أى إعتبار لوجهة نظر المتفرج على هذه الصورة أو لمنطقة فى المشاهدة أو التذوق الفنى ، إنما عليه فقط أن يفهم هذه الصورة بنفس المعايير التى أخذ بها الفنان الذى أبدعها ، بمعنى أن عناصر تلك الصورة لم تكن فى رؤية الفنان عناصر " مرئية " فى لحظة محددة عابرة ، وإنما كانت عناصر " معروفة " لدى الفنان فعبر عن حقيقتها مجردة تماماً من عنصر الزمن . 
ومع ذلك فقد عبر الفنان المصرى القديم عن أحداث أو وقائع تاريخية معينة مرتبطة تماماً بزمن محدد . وعلى سبيل المثال تلك المناظر والصور الرائعة التى عبر بها الفنان عن بعثة الملكة حتشبسوت إلى بلاد بونت فى عصر الدولة الحديثة . وحتى فى مثل هذه الحالات يمكن النظر إلى تلك الصور على أساس أنها لا تصف زمناً معيناً . 
هذا بالنسبة لعنصر " الزمان " فى رؤية الفنان المصرى القديم ، أما رؤيته لعنصر " المكان " فلا يختلف الأمر كثيراً . فالفنان لا يعتمد على عنصر " المسافة " إلا بأقل قدر لا يمكن تلافيه لتحسين أو لإبراز عناصر الصورة . 
وكانت الرؤية التقليدية " للعالم " كما عبر عنها الفن المصرى القديم متوائمة تماماً مع إحساس المصريين القدماء " بالكون " . فالمصرى القديم كان يؤمن بأنه جزء من الكون الذى نظمته الآلهة .
وعلى هذا فلو كانت للفنان المصرى رؤية شخصية – وهى رؤية ضرورية فى فن المنظور – وأراد هذا الفنان أن يعبر عن رؤيته الشخصية تلك فى عمل من أعمال الرسم أو التصوير ـ فإن ذلك يعنى أن الفنان قد خرج عن الناموس الكونى وحطم نظام الكون الذى وضعته الآلهة ، وهى نظام مستقر وثابت . 
وبالرغم من التمسك الشديد بهذا المفهوم ، إلا أن هناك العديد من النماذج التى تبرز فيها رؤية شخصية خاصة الفنان . وتكاد أن تنحصر تلك النماذج فى بعض التفاصيل الصغيرة الدقيقة التى تبرهن بوضوح على مدى مدى قدرة الفنان وخبرته الذاتية فى تسجيل بعض المظاهر الطبيعية التى تدرك بالحواس ولا تدرك بالفكر أو الحدس .
وفيما عدا ذلك فإن جميع القواعد المتعلقة بعمله مملاة عليه إملاء عليه الإلتزام بها دون تعديل أو تبديل ، دون تغيير أو تطوير
ومن حسن الحظ فإن من خلال دراسة فن " الرسم " عند قدماء المصريين نستطيع أن نلحظ بعض الأعمال الفنية التى تبرز فيها الرؤية الشخصية للفنان الرسام حين كان يضع الخطوط العامة لعمله . أما الأعمال الفنية الأخرى التى كانت تستخدم الرسم كعمل تحضيرى للنقش أو التصوير أو للنحت البارز أو الغائر ، فمن الصعب أن نجد فيها ما يدل على الرؤية الشخصية للفنان ، وإن كانت هناك بعض إستثناءات قليلة لتلك القاعدة . 
وبطبيعة الحال فثمة تباين أو إختلاف من حيث الجودة بين الأعمال الفنية التى نفذها الفانون المصريون القدماء . ولكن هذا الإختلاف لا يعنى أن هناك إختلافاً فى رؤية الفنانين ، بقدر ما يعنى وجود فوارق من حيث المهارة بين فنان وآخر عندما كان كل منهما يقوم بتحديد الخطوط العامة للعمل الفنى بطريقة صحيحة . 
وعلى هذا يمكن تفسير كيفية إستمرار الفن المصرى القديم وثباته دون تغيير على مدى ثلاثة آلاف سنة ، بأن الفنان لم يكن فى حقيقة الأمر مُتبدعاً أو مجدداً أو مبتكراً ، وإنما كان دوره منحصراً فى ترجمة وجهة النظر المصرية للعالم وللكون كله إلى عمل فنى مرئى تحكمه قواعد محددة وصارمة ، أهمها الرؤية " غير المنظورية " للأشياء والموضوعات التى يعبر عنها . 



عن كتاب 
فن الرسم عند قدماء المصريين 
تاليف : وليم .  بيك 
ترجمة مختار السويفى 
مراجعة : د .احمد قدرى 
اصدار وزارة الثقافة . هيئة الاثار .